الصفحات

  • RSS
  • Twitter

التغيرات الاقتصادية في مرحلة ما بعد الأزمة

0

Posted in

إن مرحلة ما بعد الازمة ستشهد تغيرات اقتصادية هيكلية على الساحات المحلية والإقليمية والعالمية . فلقد اقتنع الجميع بمن فيهم الصين والهند والعديد من الدول النامية بأنه ليس هناك بديل للنظام الراسمالي، غير أن اقتصاد السوق سيشهد عهداً جديداً يتسم برقابة أكثر فعالية وتشريعات مالية صارمة وتشدد في منح الائتمان . ولقد فقد المتعاملون الثقة بقدرة السوق على مراقبة نفسه بنفسه (the light touch approach to ulationreg)، ولا ينظر الآن إلى التشريعات والقوانين على أنها تعيق من تطور الأسواق، إنما أصبحت شرطاً أساسياً لأداء اقتصادي متوازن.

لقد أصبح واضحاً أن القطاع العام أخذ يلعب دوراً متزايداً على الساحة الاقتصادية . هناك عودة دراماتيكية للحكومات والتي أصبح مطلوب منها الآن أن تكون المراقب والضامن والمقرض والمالك للشركات التي تأثرت سلبياً بالأزمة . والتحدي يكمن في كيفية ابقاء القطاع العام بعيداً عن إدارة الشركات التي ارتفعت ملكيته فيها، مع اعطائه دوراً أكبر وأكثر فعالية في الإشراف والتنظيم والمراقبة، وبهذا نستطيع الحفاظ على المنجزات التي تحققت خلال العشرين سنة الماضية في منطقتنا من انفتاح، وزيادة المنافسة وكفاءة التسعير، والحد من الروتين والبيروقراطية، والحوكمة الرشيدة للشركات ضمن غيرها من الانجازات.

كما أن الرقابة الفعالة والقدرة على تجنب الازمات قبل حدوثها ستكون أيضاً من أهم مظاهر المرحلة المقبلة . فبالاضافة إلى السياسة النقدية والرقابة على المصارف، يتوقع أن نرى توسعاً في مهام البنوك المركزية ليشمل الاشراف على كافة نشاطات الاقراض بغض النظر عمن يقوم بهذا النشاط، سواء بنوك، شركات وساطة، صناديق استثمار، مؤسسات تمويل عقارية أو تمويل تأجيري وغيرها، والتنسق الكامل في هذا المجال مع هيئات أسواق رأس المال . الهدف هو تمكين البنوك المركزية من إدارة المخاطر النظامية (systemic risk) والحفاظ على الاستقرار المالي، حيث إن معظم الفقاعات في اسعار الاصول من عقارات أو أسهم أو سلع أو غيرها تنشأ بسبب المضاربة والطلب المكثف الناتج عن زيادة حجم الائتمان المقدم لشراء هذه الاصول.

لقد أظهرت الازمة مدى ارتباط دول المنطقة بالأسواق والتطورات العالمية، ويتوقع لهذا الارتباط أن يتعمق أكثر مستقبلاً . ولقد لاحظنا مؤخراً كيف أن موجات الارتفاع أو الهبوط تبدأ في الأسواق المتقدمة وتنتقل تباعاً بين أمريكا وأوروبا وآسيا وصولاً إلى منطقتنا . فالتحركات في أسعار الأسهم المحلية أصبحت تعكس بشكل متزايد حركة الأسواق الخارجية، إذ وصلت نسبة الترابط بين أداء أسواق أسهم دول المنطقة وسوق الأسهم الأمريكي (P and S 500) إلى حوالي 89% خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام . ولقد أخذ المساهمون يتابعون أداء الأسهم العالمية كمؤشر قيادي لتحسن الأوضاع الاقتصادية وما لذلك من تأثير إيجابي على أسعار النفط وبناء على ذلك يتعاملون مع أسواق أسهم دول المنطقة، متجاهلين في كثير من الحالات المعطيات الخاصة بأداء الأسهم.

إن أسواق الأسهم والعقارات لدول المنطقة أصبحت منفتحة بشكل كامل أو شبه كامل على تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، كما أن القطاع الخاص الخليجي والعربي له استثمارات في الخارج تقدر بحوالي 5 .1 تريليون دولار، فأي ارتفاع في ثروات القطاع الخاص كما حصل مؤخراً، سينعكس إيجاباً على ثقة هذا القطاع وعلى تقبله لمخاطر الاستثمار في اسواق الأسهم المحلية، والعكس صحيح أيضاً . كما أن الطلب العالمي هو الذي يحدد أسعار واحجام صادرات دول المنطقة من نفط وغاز وبتروكيماويات وغيرها، وهذه الصادرات لها تأثير كبير في معدلات النمو المحلية لأنها تشكل ما يزيد على 50% من الناتج المحلي الإجمالي، فتعافي الأوضاع الاقتصادية والمالية العالمية سينعكس إيجاباً على أسعار النفط وعلى أداء اسواق اسهم دول المنطقة وسيزيد من ثقة القطاع الخاص وبالتالي من معدلات الاستثمار والاستهلاك لديه.

كما أن أسعار العقارات في المنطقة تراجعت بنسب تتراوح بين 20% و50% حسب البلد والمدينة والموقع. فمثل هذا التراجع في قيمة الموجودات ترك أثره السلبي في عمليات الإقراض، حيث سجل النصف الأول من هذا العام ضعفاً في معدلات نمو الإقراض . فالأسهم والعقارات هي الضمانات التي تستند إليها البنوك لتقديم القروض، وقبل أن تتحسن قيمة هذه الضمانات فلن تعود البنوك إلى الإقراض بالمعدلات السابقة، وضخ السيولة من قبل البنوك المركزية لن يتحول بالضرورة إلى زيادة في الائتمان . فعلى سبيل المثال، تراجع حجم قروض البنوك التجارية إلى القطاع الخاص في المملكة العربية السعودية في خمسة من الأشهر السبعة الماضية، بينما انخفض إجمالي القروض المستحقة بأكثر من 14 مليار ريال عن أعلى مستوياته التي سجلها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي.

لقد أظهرت الأزمة العالمية مدى هشاشة الوضع المالي لبعض الشركات العائلية في دول المنطقة ومدى ارتفاع مديونيتها وطريقة أخذ القرار فيها . فبعض الشركات العائلية استخدمت قروضاً قصيرة الأجل لتمويل أصول طويلة الأجل، فضلاً عن تراكم مخزونات كبيرة لديها من مواد خام انهارت اسعارها فيما بعد . فالمشاكل التي واجهت اثنان من أكبر الشركات العائلية في المملكة العربية السعودية لها مخاطر نظامية (systemic risk)، أي أنه سيكون لها تأثير سلبي في سمعة الشركات العائلية بشكل عام وفي الطريقة التي ستتعامل بها البنوك العالمية والمحلية مع هذه الشركات مستقبلاً، إذ ستصبح أكثر تشدداً في منح الائتمان لها . وبالطبع فإن ذلك سيكون له تأثير سلبي في كافة شركات القطاع الخاص بما فيها العريقة منها وتلك التي تدار بطريقة محافظة، وكذلك على ربحية المصارف التي لها انكشاف كبير على هذه الشركات . فلابد إذاً من البنوك المركزية ووزارات الصناعة والتجارة المشرفة على الشركات العائلية وضع معايير تنظم عمل هذه الشركات بما في ذلك اتباع نظام الحوكمة الرشيدة ووجود مجلس إدارة يشمل أعضاء مستقلين من خارج العائلة، تناط بهم مهام الإشراف على لجنة التدقيق الداخلي ولجنة إدارة المخاطرة.

فظاهرة الإقراض بناءً على اسم العميل حيث يقوم البنك بتقديم القروض وفقاً لضمان شخصي من المقترض قد انتهت، فمن الآن وصاعداً ستلجأ البنوك إلى المزيد من التقصي قبل الإقراض مع مطالبة العميل بتوفير قدر أكبر من الشفافية والإفصاح.

لقد أظهرت هذه الأزمة مدى أهمية وجود سوق متطورة للسندات والصكوك والاوراق الماليه الأخرى، والذي يمكن أن يوفر التمويل المطلوب للشركات عندما تعزف المصارف عن الاقراض . فخلال النصف الأول من هذا العام تم اصدار حوالي 6 .1 تريليون دولار سندات للشركات والمؤسسات المالية في الأسواق العالمية، مقارنة مع 720 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، في وقت تراجعت فيه القروض المصرفية بنسبة 50% . المرحلة المقبلة إذاً ستشهد تعميق اسواق السندات المحلية والاقليمية واصدار المزيد من السندات الحكومية لتكون المؤشر للسندات التي تصدرها الشركات، وستضع القوانين التي تنظم التعامل في الاسواق الثانوية وقيام منصات لتداول هذه الأدوات (platforms)، كما حدث مؤخراً في السعودية مع إعلان المملكة عن انشاء سوق ثانوي لتداول السندات والأسهم . أضف إلى ذلك زيادة اهتمام المؤسسات الحكومية وهيئات الضمان الاجتماعي وشركات التأمين وشركات الاستثمار وغيرها في خلق طلب مؤسسي على السندات المصدرة.

* نقلاً عن جريدة "الخليج" الاماراتية.

Comments (0)

إرسال تعليق