نواجه في المدرسة والجامعة والمجتمع- معضلة مفاهيمية كبرى ناجمة عن غموض معاني الكلمات والمصطلحات، أو لاعتقاد كثير منا انها مفهومة أو مجرد مترادفات، فيستخدمونها مكان بعضها البعض، فيزداد الغموض، ويقل الفهم، ويستعصي التفاهم. ومن هذه الكلمات أو المصطلحات: البيانات، والمعلومات، والمعرفة، والحكمة.

ومع أن الرجوع الى القواميس العربية قد يفيدنا للتفريق بينها، الا انها لا تحسم الأمر، لأنها ما تزال متخلفة عن إيراد المعاني الجديدة لها. واذا كان الأمر كذلك فإننا مضطرون للاستعانة بالمعاجم الاجنبية، أو بمعاني تلك المفردات الواردة في نهايات الكتب والمصادر ذات العلاقة، او بثمرة الجهد الشخصي المتعلق بها.

وأبدأ بالبيانات(Data) فأقول: إنها (حتت) المعلومات او مفرداتها قبل ان تصنف او تبوب، أو تنظم لتعبر عن معلومة ما، وأنه ليس لها معنى واضح أو قيمة عملية بحد ذاتها، أي يصعب على المرء اتخاذ القرارات بموجبها. فأنت عندما تجري بحثا كميا أو احصائيا -مثلا- تجمع البيانات المتعلقة بموضوع البحث لكنك قبل تصنيفها وتبويبها وترتيبها ومعالجتها لا تستطيع فهمها أو الاستفادة منها. وعندما تفعل تصبح البيانات معلومات(Information) (مفهومة وواضحة) وشكلا من اشكال الطاقة، ولكنه شكل طاقة الوضع (Potential Energy).

أما المعرفة وأعني بها هنا (know-how) وليس المعرفة الأبستمولوجية(Knowledge)، فتعني تحويل تلك المعلومات الى برنامج عمل او أداة، أو مصدر لقرار ما أو على الأصح _الى طاقة حركة (Kinetic Energy). ولمزيد من التوضيح دعوني اقدم لكم هذا المثال:

هب ان المدرسة تعلم تلاميذها مساقا في السباحة. انها عندئذ تعطيهم معلومات عن خصائص الماء والعوم والغطس.. أي كيف يتعاملون مع الماء عندما ينزلون فيه. وقد تقوم بعقد امتحان لهم في المادة او المعلومات، ينجح فيه جميعهم او معظمهم، ولكن دون ان يعرف التلاميذ السباحة. وبعبارة أخرى لو طلبت المدرسة منهم النزول الى الماء للسباحة، فإنهم قد يفشلون فيها. لماذا؟ لأن معلومات السباحة عندهم لم تتحول الى معرفة (Know _ how).

وينطبق ذلك على كل شيء نعلمه ونتعلمه، ومن ذلك ان كليات العلوم في الجامعات العربية تعلم طلبتها عن صناعة القنبلة الذرية بالكلمات والمعادلات والرسوم. غير انك لو احضرت للاساتذة انفسهم كل الاجهزة والمواد اللازمة لصنعها فإنهم قد لا يستطيعون ذلك، لماذا؟ لأنهم لا يعرفون. لا يملكون المعرفة (Know-how) اللازمة لذلك. لقد تم احتلال العراق وتدميره واغتيال علمائه وتشريدهم في الآفاق لأنه وصل الى مرحلة المعرفة، وفتح الصندوق الاسود في صناعة اسلحة الدمار الشامل وبذلك صار مصدر تهديد لإسرائيل.

وهنا يكمن الفرق بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة، او اقتصاد التخلف واقتصاد المعرفة أو الكمبيوتر أو سوفتونمكس(Softonomics) كما يقول اليابانيون، أي الاقتصاد أو المجتمع القائم على الكمبيوتر (Computerized Economy Society) ولكن حذار من المعرفة الزائفة لأنها اخطر من الجهل كما يقول الفيلسوف جورج برنارد شو (1856-1920م).

وإذا كان الامر كذلك فأين يقع ما تعلمه المدرسة من المعرفة؟ هل تعلم تلاميذها بيانات لا معنى لها أم معلومات تحفظ وتلفظ ام معرفة تمكث وتبقى؟.

أما الحكمة(Wisdom) فهي في المعجم الوسيط: «معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وهي العلم والتفقه، او العدل، والكلام الذي يقل لفظه، ويجل معناه». ولكن كل هذه المعاني لا تكفي للدلالة على معنى الحكمة لأن للحكمة جانبين كما يقول الفيلسوف مورتمر أدلر: أحدهما أخلاقي والثاني عقلي. وعندما نصف شخصا بالحكمة فلأن احكامه تكون مناسبة او صائبة فيما يتعلق بالأمور الحياتية.

ويكون الإنسان حكيما عند الإغريق إذا كان مدركا للمبادئ الأولى أو الأسباب و حسب هذا المعنى تصبح الحكمة أعلى مراحل أو مستويات المعرفة (أبستمولوجيا). وعند سقراط فإن الله هو الحكمة والإنسان محب للحكمة. أما المفكر والناقد الإنجليزي صمويل جونسون (1709-1784) فيرى انه ليس للحكيم (فلسفيا) حاجات، لأنه كامل. وعند المسلمين فإن رأس الحكمة هو مخافة الله أو التقوى.

أما بالنسبة لموضوعنا هنا فإن الحكمة هي الهدف النهائي للتعلم(بالنظر والعمل أو الممارسة) كما يفيد أدلر. ولكن التعليم الجيد -وان كان يساعد على تكوينها- إلا أنه لا يكفي لتكوين هذه الفضيلة العقلية والسلوكية العليا. ولا يكفي السن فقط لتكوينها. ولعل ذلك هو الذي جعل المفكر والكاتب الفرنسي مايكل مونتين (1533-1592م) يرى أنه «لا يمكن تعلم الحكمة أو تعليمها». اما فرنسيس بيكون (1561-1626م) فيعتقد «أن السؤال الحصيف نصف الحكمة». ولكن المدرسة والجامعة منغمسة في تعليم الأجوبة فلا تشجع تلاميذها على طرح الأسئلة ولا تكسبهم الخبرات المؤاتية للحكمة.

إن الحكمة عملية مستمرة طيلة الحياة، وتقوم على السؤال والاستقصاء والخبرة الواسعة والمتجددة. وان قلة من الناس يبذلون الجهد من أجل اكتسابها وتكريس أنفسهم لها. وهذه القلة هي التي تعلم البقية وتقودها. وتنبع عظمة الحكمة من دلالاتها القائمة على: الموضوعية، والإنصاف، والتجرد، والتوازن. إنها توحيد للمعرفة والفعل ومعرفة للخير والشر كما يقول ديفيد م. ريشي.

وعندي أن الحكمة هي محصلة التعليم والخبرة والتجارب الحياتية الغنية. انها اشبه بالاجوبة الكبرى. وان المرء لا يمكن ان يمتلك الحكمة بالبيانات والمعلومات والمعرفة فقط. لا بد من الخبرة او التجربة والوقت أيضا. واذا كانت البيانات والمعلومات والمعارف تتعلق بالأشياء أكثر من تعلقها بالناس فإن الحكمة تتعلق بالبشر ان الانسان هو موضوعها الوحيد. ولذلك يمكن ان يحصل المرء على درجة الدكتوراة في معلومات او معرفة ما، ولكنه قد لا يملك الحكمة أو الرؤية أو الفلسفة أبدا. أي أنه ليس بقدرة المدرسة والجامعة تخريج الحكماء تخريجها للأطباء والصيادلة والمهندسين...الخ وان كان من الضروري تحلي معلميها والأساتذة فيها بالحكمة كما يمكن للمرء اكتساب كثير من المعلومات والمعارف من الآخرين أو المصادر، ولكنه لا يستطيع اكتساب الحكمة من الحكماء كما يقول مايكل فونتين(1533-1592).

وبعبارة أخرى فإنه إذا كان ممكنا وسهلا أيضا اكتساب المعلومات والمعارف وتعليمها والحصول على المعلومات من الكتب وبنوك المعلومات فإنه من غير الممكن وغير السهل تعلم الحكمة أو تعليمها. نعم إن الحكمة تتعلم ولكن من كيس صاحبها. وإذا كان الأمر كذلك أي إذا كانت الحكمة أعلى مراحل المعرفة أو إنعكاس كلي للخبرة فيجب ان يتحلى كل من الوزير والأمين العام والمدير... بالحكمة لا بالبيانات او المعلومات او المعارف او الشهادات او الدرجات الجامعية فقط. ان طبيعة دور كل منهم تقتضي امتلاك الحكمة وأن يكون ذلك معروفا عنه ومن ذلك تجليه في تاريخه أو مؤلفاته أو مواقفه.. وإلا فإن أحدا منهم لا يستطيع ان يكون قائدا فعليا او قدوة تحتذى. فما اقل أو أندر الحكمة أو الحكماء وما اكثر المعرفة، وما أقل المعرفة وما اكثر المعلومات، وما أقل المعلومات وما أكثر البيانات!!!